غازي عبد العزيز عبد الرحمن – الماجد
صنفت الأهداف التربوية التعليمية إلى ثلاثة مستويات هي: المحدد، والمتوسط،
والعام، ويتضمن المنهج الإسلامي هدفاً آخر، يحيط بحياة الفرد ويوجهها ،
ويُعد الهدف النهائي الذي تقوم عليه العملية التربوية، ويتعلق بهدف الحياة
العامة، وهو غاية نشاطات الإنسان وأعماله جميعاً ، ويتمثل في تحقيق
العبودية التي ينال بها الإنسان رضى الله سبحانه وتعالى، والفوز بالآخرة .
(وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ) (الذاريات : 56).
وفي الحقيقة أن الرؤية التربوية التي تسعى إلى تحقيق هذا الهدف السامي؛
ستنجح في تحقيق المجتمع الفاضل والأمة القوية التي تستطيع أن تصل إلى النصر
والمجد، ومن ثم سعادة الإنسان في الدارين إن شاء الله. ولئن كان الوصول
إلى هذا الهدف العظيم لا يمكن أن يتم إلا من خلال منظومة تربوية متكاملة هي
في الأصل تعبر عن ثقافة الأمة وهويتها؛ فإن مسؤولية تحقيقه ينبغي أن تكون
أيضاً متكاملة بين النظام العام للمجتمع بمؤسساته الرسمية وغير الرسمية،
ولاسيما المدارس – إذ (لا صلاح لأمة فسدت منابت أطفالها) – وبين النظام
الخاص له بخلاياه الصغيرة كالأسرة والفرد. وكلتا الجهتين من الأهمية بمكان ،
وكلتا الجهتين تؤثر وتتأثر بالأخرى، وهذه مسألة لسنا بصدد تفاصيلها ما
دمنا نسلّم بأن تربية الأبناء ألقاها الإسلام ابتداءً على عاتق الوالدين ؛
من أجل المحافظة على دين الفطرة فيهم؛ فنحن هنا أمام معادلة:
- الطرف الأول فيها: صلاح الأبوين وما يتحقق فيه من نفع للأبناء .
والطرف الآخر: تربية الأبناء وما يترتب عليه من برّ ومكاسب للآباء في دنياهم، ومن دعاء وتصدق واستغفار لهم بعد مماتهم.
فأما الطرف الأول: كما في قول الله – تعالى – في قصة الغلامين اليتيمين
اللذين حفظا في نفسيهما ومالهما بصلاح والدهما (وأما الجدار فكان لغلامين
يتيمين في المدينة وكان تحته كنز لهما وكان أبوهما صالحاً ) (الكهف : 82).
وكما في قوله تعالى : (والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم
ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شيء ) (الطور : 21) حيث يخبر الله تعالى عن
فضله وكرمه وامتنانه ولطفه بخلقه وإحسانه بأن المؤمنين إذا اتبعتهم
ذرياتهم في الإيمان يلحقهم بآبائهم في المنزلة، وإن لم يبلغوا عملهم؛ لتقرّ
أعين الآباء بالأبناء عندهم في منازلهم، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن
يرفع الناقص العمل بكامل العمل.
قال ابن عباس – رضي الله عنهما – : إن الله يرفع ذرية المؤمن في درجته ،
وإن كانوا دونه في العمل؛ لتقرّ بهم عينه ثم قرأ: ( والذين آمنوا واتبعتهم
ذريتهم …)، وهذا من فضله – تعالى – على الأبناء، ببركة عمل الآباء وقد
قيل: إن الله يحفظ الصالح في سبعة من ذريته.
وأما الطرف الثاني : فهو تربية الأبناء وصلاحهم، وما يترتب على ذلك من
بر ومكاسب للآباء في دنياهم، ومن دعاء وتصدق واستغفار لهم بعد مماتهم ، قال
صلى الله عليه وسلم : (( إذا مات العبد انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة
جارية ، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له )).
وعن أبي الدرداء – رضي الله عنه – قال: (( ذكرنا عند رسول الله صلى الله
عليه وسلم الزيادة في العمر فقال: إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها،
وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له، فيلحقه
دعاؤهم في قبره )).
فهؤلاء الأبناء هم الاستثمار الأمثل لنا في حياتنا وبعد مماتنا ، فعلينا
أن نحسن هذا الاستثمار وفقاً لمقتضيات الشرع التي أمرنا بها ديننا الحنيف،
وهذا يتطلب منا بذل الكثير من الجهد والمال والوقت؛ وباستمرار ، أما الجهد
والوقت بشكل خاص فكمهما ونوعهما ومدى الاستمرار بهما يتوقف على قناعة الأب
بمسؤوليته وقناعته بنتاجات هذه المسؤولية مستقبلاً .
ولعلنا نذكر قصة المسن الذي مر به شاب فوجده منكباً يغرس زيتونة فقال له
الشاب: وهل ترجو أن تأكل منها؟ قال الشيخ : غرسوا فأكلنا ونغرس ليأكل من
بعدنا، فهذا إحسان بمسؤولية التربية إلى آخر لحظة، وبقدر ما يقدم الآباء
للأبناء من عناية ورعاية ونفقة، وما يبذلونه من رحمة وشفقة، وبقدر ما
يحيطون به أبناءهم من نصرة ومعونة وحماية؛ بقدر ما يعيد هؤلاء الأبناء –
حالاً أو مآلاً – هذا العطاء والبذل برّاً وطاعة ومعروفاً وخفضاً للجناح .
فالأب الذي يعني ببيته وأولاده، ويحسن اختيار أسمائهم، ويحسن اختيار
الأشياء له، وينفق عليهم بعناية وترتيب ، ويبذل من وقته وجهده في تعليمهم
وتربيتهم، ويزودهم بما يحتاجونه من حنان ورحمة ومحبة، ويحيطهم بالأنس
واليسر ولين المعاملة؛ لا يخيب الله أمله ولا يذهب جهده هباء؛ بل ينعكس كل
ذلك على سلوك الأبناء تجاه الآباء .
وعدا ذلك فأبناؤنا جعلهم الله زينة لنا في هذه الحياة ( المال والبنون
زينة الحياة الدنيا ) (الكهف : 46) ، وجعلهم الله قرة أعين لنا (والذين
يقولون ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين ) (الفرقان : 74) ، وهم
الذين نؤثرهم على أنفسنا فنكد ليرتاحوا ونجوع ليشبعوا ونظمأ ليرتووا ، وهم
الذين نطمح أن نجد فيهم ما لم نجده في أنفسنا ونحقق لهم ما لم نستطع أن
نحققه بأنفسنا . وقيل : إنه لما حضرت الوفاة أبا الإمام محمد الغزالي وصَّى
به وبأخيه أحمد إلى صديق له من المحبين للخير وقال له: إن لي تأسفاً
عظيماً على تعلم الخط وأشتهي استدراك ما فاتني في والديّ هذين فعلّمهما ولا
عليك أن تُنفد في ذلك جميع ما أخلّفه لهما .
وأطفالنا أيضاً هم الذين نريدهم أن يبرونا في حياتنا ونطمح أن يستمر
أجرنا بهم إلى ما بعد مماتنا؛ فهم ثمرة قلوبنا وفلذات أكبادنا التي تمشي
على الأرض كما قال الشاعر:
إنما أولادنا بيننا أكبادنا تمشي على الأرض
فهم جديرون بالرعاية والتربية ونحن مأمورون بتربيتهم وقد حثنا الشرع على
العناية بهم، قال – تعالى – : (وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها) (طه:
132)،
وقال – سبحانه – : (يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم ناراً
وقودها الناس والحجارة) (التحريم: 6) ،
وقال على لسان لقمان إذ يوصي ابنه :
( يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر ) (لقمان: 17) ،
وقال
صلى الله عليه وسلم : (( كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ))، وعن ابن عباس –
رضي الله عنهما – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (( من ولد له
ولد فليحسن اسمه، وأدبه …)) ، وقال عبد الله بن عمر – رضي الله عنهما – :
أدّب ابنك فإنك مسؤول : ماذا أدَّبته وماذا علمته؟ وهو مسؤول عن برك
وطواعيته لك .
وجاء في كتاب (الأمالي) لأبي علي القالي: دخل الأحنف ابن قيس على معاوية
، ويزيد بين يديه ، وهو ينظر إليه، فقال: يا أبا بحر! ما تقول في الولد؟
فعلم ما أراد، فقال: يا أمير المؤمنين ! هم عماد ظهورنا ، وثمرة قلوبنا،
وقرة عيوننا ، بهم نصول على أعدائنا، وهم الخلف لمن بعدنا؛ فكن لهم أرضاً
ذليلة، وسماء ظليلة، إن سألوك فأعطهم ، وإن استعتبوك فأعتبهم، ولا تمنعهم
رفدك ؛ فيملوا قربك ، ويكرهوا حياتك، ويستبطئوا موتك، فقال معاوية: لله درك
يا أبا بحر! هم كما وصفتهم . فهذه أمانة في أعناقنا حذرنا الله من تضييعها
قال تعالى : (يا أيها الذين آمنوا لا تخونوا الله والرسول وتخونوا
أماناتكم وأنتم تعلمون ) (الأنفال : 27).
ففلذات الأكباد لهم علينا حقوق يجب أن لا نتخلى عنها أو نتجاهلها أو
نخطئ في تأديتها؛ ومن ثم يختل الطرف الثاني في المعادلة التربوية والذي
نسعى من خلاله إلى استمرار التواصل نحو الهدف النهائي للحياة. وقد ذكرت هذه
الحقوق في كثير من كتب التربية والسير؛ فهذا رجل جاء إلى أمير المؤمنين
الفاروق عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – يشكوا إليه عقوق ابنه، فأحضر عمر
الولد وأنَّبه على عقوقه لأبيه فقال الولد : يا أمير المؤمنين ! أليس للولد
حقوق على أبيه ؟ قال عمر: بلى! قال: فما هي يا أمير المؤمنين ؟! قال عمر:
أن ينتقي أمه، ويحسن اسمه، ويعلّمه الكتاب ، قال الولد : يا أمير المؤمنين !
إن أبي لم يفعل شيئاً من ذلك؛ أما أمي فإنها زنجية كانت لمجوسي، وقد
سمّاني جُعلاً ، ولم يعلمني من الكتاب حرفاً واحداً ، فالتفت عمر إلى الرجل
وقال له: جئت تشكو عقوق ابنك وقد عققته قبل أن يعقك ، وأسأت إليه قبل أن
يسيء إليك؟!
ولعل أحدنا يخطئ عندما يظن أن واجبه التربوي ينتهي في تأمين المأكل
والمشرب والملبس وحسب؛ فهذا لا يكفي؛ والمسألة ليست في (التسمين) أو
(التخمة) فنحن أمة لا تعيش لتأكل ، بل تأكل لتعيش ، إنما المسألة في تنمية
فطرة الطفل السليمة على الخير ، وربط صلته بالله – تعالى -0 في كل حين وفي
كل عمل، وربطه أيضاً بالمجتمع ، وبالأمة، وبالوطن، وبالمستقبل ، وبالجار،
وبالضعيف ، وبالفقير… وبكل الخلق والتوجيهات المستوحاة من القرآن الكريم
والسنة النبوية الشريفة ، وترجمة هذه التوجيهات إلى سلوكيات عملية، يمارسها
الطفل في حياته اليومية ، ويقتدى بها من أبويه ومن معلميه ، وكذلك العمل
على تنمية مواهبه وتربية عقله على نبذ الأسطورة والخرافة والسمو بعواطفه
وزرع الثقة بنفسه وعدم تعنيفه حتى لا يصبح العنف طبعاً لديه فيستحبه.
فهؤلاء الأطفال الآن هم في النهاية الشباب والرجال مستقبلاً ، فمصير
الأمة والمجتمع والفرد سيكون انعكاساً لإفرازات تربيتهم وتطبيقاتها؛ ألا
فلنسن الاستثمار!