غزوة القادسيه

في عهد الخليفة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – بعث حملة بقيادة سعد بن أبي وقاص قوامها أكثر من ثلاثين ألفًا – في إطار عمليات فتوح العراق وفارس – فكانت معركة القادسية التي منى فيها الفرس بهزيمة ساحقة، ثم أمره الخليفة بالتقدم إلى المدائن حيث تغلب على ما واجه من مقاومة حتى بلغ بهرسير من ضواحي المدائن ولا يفصلها عنها غير نهر دجلة، فحاصره مستخدمًا آلات الحصار الثقيلة مثل المنجنيق والدبابات مدة شهرين ثم دخلها بعد أن هرب أهلها في صفر عام 16 هـ وأخذ يستعد لعبور دجلة لفتح المدائن.
لم يكن في مقدور سعد بن أبي وقاص الحصول على سفن لعبور دجلة لأن الفرس كانوا قد جمعوا سفنهم وأبعدوها لمسافة 180 كيلو مترًا جنوب المدائن و130 كيلو مترًا شمالها، وضموها إلى البر الشرقي لدجلة، كما أنهم قاموا بإحراق الجسور التي كانت تصل بين شرقي دجلة وغربيه.
وأخذ سعد يدرس الموقف واضعًا في اعتباره ما ينطوي عليه عبور جيشه من مخاطر وخسائر وخاصة أن فيضان النهر جاء في ذلك الوقت مبكرًا عن موعده المعتاد، ثم جمع الناس، فحمد الله وأثنى عليه وقال: ( إن عدوكم قد اعتصم منكم بهذا البحر فلا تخلصون إليه معه، وهم يخلصون إليكم إذا شاؤوا، وقد رأيت من الرأي أن تبادروا جهاد العدو بنياتكم قبل أن تحصركم الدنيا، ألا إني قد عزمت على قطع هذا البحر إليهم )، فقالوا جميعًا: عزم الله لنا ولك على الرشد فافعل.

عبقرية سعد
في ذلك الوقت العصيب وضع سعد بن أبي وقاص خطة عبقرية سجل بها التاريخ نجاح المسلمين في اقتحام مانع مائي في مواجهة مقاومة، وأنهم سبقوا بها ما عرفه العلم العسكري وفن الحرب حتى في العصر الحديث، فقد اشتملت خطته على ما يلي:
فقد قرر سعد بن أبي وقاص أن تعبر النهر قوة محدودة لإقامة رأس جسر على الضفة الشرقية لنهر دجلة؛ وذلك لتأمين عبور القوة الرئيسية للجيش بعد ذلك، فقال سعد: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فتقدم عاصم بن عمرو وستمائة من المسلمين فعينه سعد قائدًا لهم.
فتقدم عاصم برجاله حتى وقف على شاطئ دجلة القريب (على الضفة الغربية) وقرر أن يتولى بنفسه قيادة جانب من قوته تعبر أولاً، وتتولى حماية باقي القوة، فقد قال لرجاله: ( من ينتدب معي لنمنع الفراض من عدوكم ولنحميكم حتى تعبروا؟ فتقدم له ستون رجلاً، فجعلهم نصفين على خيول إناث وذكور؛ ليكون ذلك أسهل لعوم الخيل ( أي يجعل عومها سهلاً )، وبدأت مجموعة المقدمة بقيادة عاصم فاقتحمت النهر،
ثم تلتها بقية القوة فاقتحمته على إثرها.
فلما رآهم الفرس دفعوا إلى النهر بقوة مثلهم، فأعامت خيلها لتلتقي بالمسلمين وسط النهر، وكان المسلمون أقرب إلى الشاطئ الشرقي، ونشب القتال، فصاح عاصم: ( الرماح الرماح، أشرعوها وتوخوا العيون )؛ فأخذ المسلمون يطعنون الفرس في عيونهم بالرماح مما أحدث الذعر في صفوفهم فأخذوا في الانسحاب، لكنّ المسلمين لحقوا بهم عند الشاطئ الشرقي فقتلوا عامتهم ونجا من نجا منهم عورانًا، وهكذا أنجزت قوة رأس الجسر مهمتها بنجاح.

اقتحام القوة الرئيسية
ولما رأى سعد بن أبي وقاص أن قوة رأس الجسر قد أدت مهمتها وأن الشاطئ الشرقي لدجلة قد أصبح آمنًا اقتحم النهر بالقوة الرئيسية دون أن يغرق من رجاله أحد، وهكذا سقطت المدائن وكانت المدائن – كما سماها العرب قبل الإسلام – هي عاصمة الساسانيين، وكانت تضم سبع مدائن موزعة على ضفتي نهر دجلة في العهد الأخير للدولة الساسانية، وكانت بعض هذه المدائن محاطة بأسوار حصينة عليها أبواب محكمة، كما كان هناك جسران يصلان بين ضفتي النهر، وكان ( إيوان كسرى ) قاعة العرش هو أهم معالم المدائن.
فلما دخل سعد بن أبي وقاص بجيشه المدائن، اتجه نحو إيوان كسرى فدخله وقرأ قول الله تعالى: { كم تركوا من جنات وعيون. وزروع ومقام كريم. ونعمة كانوا فيها فاكهين. كذلك وأورثناهم قومًا آخرين } (الدخان 25-28) وصلى فيها صلاة الفتح ولا تُصلى جماعة – فصلى ثماني ركعات لا يفصل بينهن واتخذ الإيوان مسجدًا. وأما من بقوا من الفرس في المدائن فقد اختاروا أن يؤدوا الجزية، والدخول في ذمة المسلمين وحمايتهم.

الإسلام يشحذ ملكات التفكير
لم يكن عبور الموانع المائية في سجل خبرات المسلمين القتالية السابقة، وقد ظهرت عبقرية سعد بن أبي وقاص في تخطيطه لعبور دجلة؛ حيث أتى بما يقرره العلم العسكري في عمليات العبور.
فذلك أبلغ دليل على أن الإسلام يشحذ ملكات التفكير والتقدير والتدبر ودراسة الظواهر والمعطيات والعوامل المسببة للمشكلات والوصول إلى الحل الأمثل.
وتكشف لنا العملية عن الآثار العظيمة للعقيدة والإيمان في عزم الرجال وإحراز النصر.
فالمعروف أن عبور الأنهار أو الموانع المائية والعدو قابع على الضفة البعيدة يعرض القوات لخسائر جسيمة؛ لما تكون عليه حالتها في أثناء العبور من عدم القدرة على القتال مما لو كانت فوق الأرض، هذا فضلاً عن مواجهتها المباشرة لقوة العدو التي تبذل أقصى ما لديها لمنعها من العبور وبذلك لا تتمكن من تأمين رأس الجسر تمهيدًا لعبور القوة الرئيسية. من أجل ذلك يعتبر عمل قوة رأس الجسر من الأعمال الفدائية التي تتطلب فيمن يقوم بها الشجاعة الفائقة والروح المعنوية العالية والثبات والتصميم على تحقيق الهدف مهما كانت التضحيات.
ولعل ذلك ما جعل سعد بن أبي وقاص يقرر أن تشكيله لقوة رأس الجسر على أساس التطوع، من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ وكذلك فعل عاصم بن عمرو حين قرر أن يدفع بمقدمة تؤمن عبور قوته، فلما تقدم ستون من رجاله لهذه المهمة تولى قيادتهم بنفسه ضاربًا المثل للقائد الذي يشارك رجاله ويكون على رأسهم في المهام الخطيرة رغم أنه كان يمكنه أن يتخلف مع باقي القوة، ولكنها بصيرة القائد المؤمن الشجاع الذي اتخذ من الرسول القائد – صلى الله عليه وسلم- القدوة الحسنة، وقال عنه علي بن أبي طالب رضي الله عنه: { كنا إذا اشتد الخطب واحمرت الحدق اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فما يكون أحد أقرب إلى العدو منه، ولقد رأيتني يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو }رواه أحمد والنسائي. وصدق الله العظيم: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين. إنهم لهم المنصورون. وإن جندنا لهم الغالبون } الصافات:171 الى 173.

جزاك الله خيرا